- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى
﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ(62)﴾
انظر إلى هذا التناقض الصارخ :
بعض العلماء قالوا:
هل يرضى أحدهم أن يشركه أحد في ماله؟ لا يرضى، فكيف تنسب لله -عز وجل- أن آلهة أخرى تشاركه في تسيير الأمور؟
لا تنسب إلى الله ما تكرهه نفسُك :
وبعضهم فهم هذه الآية على إطلاقها، فأيّ شيء تكرهه كيف تنسبه إلى الله -عز وجل-؟ أتعاقب أنت إنساناً يعمل معك من دون أن يقترف ذنباً؟ أتعاقبه بلا سبب؟ أتودي بأعمال طيبة قُدِّمت لك طوال عمرٍ مديد، تودي بها وتعاقب صاحبها؟
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(35)﴾
﴿
أشركوهم في تدبير الأمور، كما أنهم يكرهون البنات، وكما أنهم يكرهون أن يشركهم أحد في أموالهم، أو أن الصفات التي يكرهونها بعُرْف عاداتهم وتقاليدهم، فكيف ينسبونها إلى الله -عز وجل-؟
جعل الشريك لله نوع من الافتراء والكذب :
هذه الآية من الآيات البلاغية، بدل أن يقول الله -عز وجل-: ويقولون الكذب؛ أي كلامهم يصف نفسه بأنه كذب، كلامهم نفسه يصف أن مضمونه كذب.
ومع هذا فهم يدّعون أن لهم الحسنى في الآخرة :
لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ
معنى : مُفْرَطونَ :
معنى
أما:
لا تنسب لله صفة لا تليق بجلاله :
إذاً: أية صفة لا تليق بك فلا تنسبها إلى الله -عز وجل-، وأيّة صفة تأبى أن تُنسب إليك فلا تنسبها إلى الله -عز وجل-.
بعضهم يقول: إن الله -عز وجل- يُدخل النار من أفنى حياته في طاعته، يقول لك:
﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23) ﴾
أترضى لله عز وجل أن يأتي عبد من عباده يعبده طوال حياته، أن يفني عمره في طاعته وفي التقرب إليه، وفي خدمة عباده، وفي الدعوة له، أيعقل أن يضعه في النار؟! أترضى لنفسك هذه الأخلاق، أين قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
ألا تكره أن يُنسَب إليك الظلم؟ أتقبل أن تكون ظالماً؟ فكيف تنسب الظلم إلى الله -عز وجل-؟ كيف تعتقد أن الإنسان منذ أن خُلقَ خُلِق شقياً؟ وأن كل ما يفعله في الدنيا مكتوب عليه؟ وأن كل المعاصي مقدّرة عليه؟ ولا سبيل إلى تلافيها، وأن الله -سبحانه وتعالى- سيعاقبه على تقصيره، وعلى معصيته؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إِيّاك إيّاك أن تبتل بالماء
***
هل ترضى هذا لنفسك؟ هل ترضى أن يُنسب لك، وأنت تعلّم الطلاب أن أحد الطلاب قبل أن يدخل المدرسة اتخذت قراراً بترسيبه؟ فمهما بذل من جهد، ومهما عمل من وظائف، ومهما درس فلابد من أن يرسب، هذه عقيدة الجبر، أي إن الإنسان مجبور على أعماله، ولا اختيار له فيها، فإذا اعتقدنا بهذه العقيدة فكأنما نسبنا الظلم إلى الله -سبحانه وتعالى-، لابد من أن يكون في الحياة اختيار، لأن الله -سبحانه وتعالى- لو كان كذلك لكان إرسال الأنبياء عبثاً، وإنزال الكتب لعباً، وإن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، وإذا ألزم الله عباده بطاعته لبطل الثواب، وإذا ألزمهم بمعصيته فقد بطل العقاب.
أحد الخلفاء حينما جيء إليه برجل شارب للخمر، قال له: يا أمير المؤمنين، إن الله قدّر علي ذلك، فقال رَضِي اللَّه عَنْه: أقيموا الحد عليه مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأن افترى على الله.
لذلك قال تعالى:
مثل هؤلاء مصيرهم النار :
﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)﴾
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ
الشيطان يزيّن أعمال الناس :
حينما يسمح الله للشيطان أن يزيّن للإنسان عمله السيّئ، يكون هذا العمل السيئ تعبيراً عن شهوة استحكمت فيه، وأن إخراج الشهوة خيرٌ من بقائها، فالإنسان يشتهي، ولكن شهوته هذه لها مستويات، فإذا بلغت مستوى الإصرار كانت هذه الشهوة حجاباً بين الإنسان وبين الله، بين الإنسان والحق، بين الإنسان والهدى، لذلك أحكم شيءٍ، وأنسب شيءٍ أن تخرج هذه الشهوة، من يتولى إخراجها؟ يأتي الشيطان فيزين لمن استحكمت فيه شهوته، يزين له هذه الشهوة حتى تخرج منه عملاً يرى بشاعته، ويرى دناءته، ويعاقبه الله عليه، فلعل نفسه بعد هذا العقاب الأليم تصفو وتُقبِل، وكم من إنسان أصرَّ على شهوة، واستحكمت في قلبه، فجاء الشيطان فزين له شهوته، فانقلبت إلى عمل استحق عليه العقاب، ثم شفيت نفسه وطهُرت، وأقبلت، وتابت، وصحت توبته. يعني مشروع إلهي لهداية الإنسان، لمن كان مريضاً بشهوة ما.
تفسير هذه الآية :
هناك تفسيران لهذه الآية:
التفسير الأول :
التفسير الأول: هم يزعمون أن الشيطان وليهم في الدنيا، وكل إنسان بعيد عن الله عز وجل يتكئ على جهة في الأرض، ويقول لك: فلان بإمكانه أن يرفع شأني، وفلان بإمكانه أن يعطيني، وفلان يستطيع أن يضرني، فيتولاه، ويطيعه من دون الله، يواليه من دون الله.
التفسير الثاني :
وبعضهم قال:
كل شهوة محرمة يزينّها الشيطان :
﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64)﴾
وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ
القرآن يرفع الخلاف الذي وقع فيه الناس :
وهناك من اختلف على السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، جاء القرآن الكريم ليبين الحقيقة، والموضوعات المختلَف عليها في الديانات السماوية قبل الإسلام، الموضوعات التي اختلف الناس عليها قبل بعثة النبي العدنان، هذه الموضوعات جاء بيانها في القرآن حداً فاصلاً لكل خلاف.
القرآن هدى ورحمة للمؤمنين :
يا موسى، أتحب أن أكون جليسك؟ فقال: يا رب، وكيف يكون ذلك؟ قال: أما علمت أني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
مَن اتبع الهدى سعِد في الدنيا والآخرة :
﴿
إعجازه في إيجازه.
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
والآن تتوالى الآيات البينات التي توضح، وتذكرنا ببعض النعم الجليلة التي أنعم الله بها علينا، قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(65) ﴾
إبراز أهمية الماء بتقديم لفظ الجلالة إشعارا بالمنعِم :
الماء حياة للأرض بعد موتها :
هذا الغيث ليس مُنخَفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص، وهو يتجه نحو سوريا، لا،
بعضهم قال: إلا المرابي، هذا الذي له ربح ثابت يظن نفسه مستغنياً عن رحمة السماء، لذلك هو مقطوع عن رحمة السماء.
السماع طريق من طرق الهداية :
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(37)﴾
فأحد مظانّ المعرفة أن تحضر مجالس العلم، وأحد الطرائق إلى قلبك أن تلقي السمع، فالسماع باب واسع من أبواب الهدى، وهناك التأمل، وهناك التفكر، وأن تعقل، وأن تدرس، ولكن السماع باب واسع من أبواب الهدى، لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
إنزال الماء من السماء غاية في الإبداع :
﴿
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ
نعمة الأنعام :
الأنعام المقصود بها الجمال، والأغنام، والشياه، والأبقار، هذه الأنعام الله سبحانه وتعالى سخرها لنا، نستفيد من كل شيء فيها، هذه من نعم الله، الجلود، واللحم، والعظم، والشحم، والدهن، والأمعاء، والجمجمة وما فيها، والأحشاء وما إليها، والأصواف والأوبار، كل هذا نستفيد منه
الأنعام مسخَّرة مذلَّلة مطواعة :
شيء آخر، أن هذه الأنعام كيف هي مسخرة لكم، مذللة لكم، مطواعة لكم، تقدم لكم كل ما عندها، وأن هذا الإنسان الذي سُخِّرت له هذه الأنعام يعصي الله، ويأبى أن ينفذ أمره، ويستنكف أن يطيعه، ما هذه المفارقة الحادة ؟!
لماذا لا يكون الإنسان مطواعا وهذه صفة البهائم ؟!
أي: كونوا كالأنعام، طيِّعين لله عز وجل، كونوا في مستواها، بانقيادها إلى الله عز وجل، فتأبى نفسه أن يطيع الله، تأخذه العزة بالإثم، هذه الغنمة أشرف منك أيها المُعرض، أيها الكافر، أيها الفاجر، أيها المنافق، أيها العاصي:
﴿
أخلاق الأنعام محببة، تبعث الأنس في البيت، لا تخيف، لو أن أخلاق الضبع رُكِّبت في الغنمة، فكيف تأكلها؟ وكيف تذبحها، وأنت تخاف منها؟ عندئذ تهرب منها، بدل أن تمسكها لتذبحها وتأكلها تولِّي هارباً منها، لو أنها اقتربت منك، لو أن أخلاق الوحوش الضارية رُكِّبت في هذه الأنعام كيف تأكل لحمها؟ وكيف تسخرها؟ وكيف تنتفع منها؟
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
بهذه الطريقة يخرج اللبن من الضرع !!!
اللبن خالص لا يشوبه فرث ولا دم :
الحليب غذاء كامل ففكِّر فيه حين تشربه :
يعد الحليب الغذاء الأكمل للإنسان، فالإنسان يستطيع أن يبقى على شرب الحليب طوال حياته، فيه من كل المعادن، ومن كل المواد الأساسية، البروتينية، والدهنية، والفيتامينات، والمعادن، وأشباه المعادن، كله في الحليب الذي يخرج:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ
﴿
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا
ثم تأتي الآيات الأخرى لتحدثنا عن ثمرات النخيل، والأعناب، وما في النخيل من بلح وتمر، وما شاكل ذلك، والأعناب وأنواعها المنوعة التي تزيد عن ثلاثمئة نوع .
التدرّج في تحريم الخمر :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ثم قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)﴾
لذلك جاء تحريم الخمر تدريجياً .
هل آية النحل هذه منسوخة ؟!
أول آية فيها إشارة إلى أن السَّكر، كأن تقول: رشد، السُّكر والسَّكر، الرُّشد والرَّشَد، رُشْدٌ ورَشَد، سكرٌ وسَكر، فالسَّكر هو السُّكر، والسُّكر هو الخمرُ، أي أن الناس يتخذون من الأعناب ومن ثمرات النخيل خمراً يشربونها، بعض العلماء قال: إن هذه الآية منسوخة بآية:
والقرآن كما يقول الإمام علي كرم الله وجهه حمَّالُ أوجُهٍ، أي كل هذه المعاني مستفادة من كلمة "سَكَراً"، لكن أوجه التفسيرات:
إذاً: أيها المؤمنون، كلوا من ثمرات النخيل والأعناب، ولا تتخذوا منها سَكراً، طبعاً في الآيات اللاحقة يتضح هذا المعنى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69) ﴾
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
مملكة النحل آية تأخذ بألباب ذوي الألباب :
الحقيقة أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني في الدرس القادم إلى توضيح مملكة النحل، وما فيها من عجائب، فمملكة النحل يصح أن نسميها مملكة، لأن فيها نظاماً عجيباً يعجز عنه البشر، ويعجز البشر أن يطبقوه على أنفسهم، إنه نظام عجيب، وآيات محكمة، ودلائل باهرة على عظمة الله سبحانه وتعالى، فهذه النحلة أين تعلمت؟ قالوا هناك عشرة أشكالاً، منها شكل المربع، والمخمس، والمسدس، والسباعي والثماني، والتساعي، كل هذه الأشكال إذا ضممتها إلى بعضها يبقى فيما بينها فراغات بينية، إلا الشكل المسدس، فإذا ضممته إلى بعضه صار قطعة واحدة، فالشكل المسدس هو الشكل الهندسي الوحيد الذي إذا جمعته إلى بعضه بعضاً لا يبقى فيما بينه أي فراغ بيني، فمن علم النحلة أن تصنع بيوت عسلها على شكل مسدس؟ من؟ الحديث عن الشمع، وعن الخلية وعن الملكة، وعن الذكور، وعن النحلات العاملات، والنحلات الحارسات، والنحلات الوصيفات، والنحلات اللاتي يأخذن كلمة السر، وعن النحلات المنظفات، وعن رحلة النحلة، وعن طريقة مصها لرحيق الأزهار، وعن رقص النحل، وعن نوع العسل، وعن اختلاف ألوانه، وعن أنواع شفائه، فإنه موضوع شيق جداً، وفيه أدلة واضحة على عظمة الله عز وجل، يكفي أن أذكر لكم أن الكيلو غرام من العسل هو حصيلة طيران طوله أربعمئة ألف كيلومتراً، فلو أننا كلفنا نحلة واحدة أن تصنع لنا كيلو غرامًا من العسل لوجب أن تطير حول الأرض في خط الاستواء عشر دورات.
العسل دواء :
أيها الإخوة الأكارم، العسل إلى أن يكون دواء أقرب منه إلى أن يكون غذاء، بل إن العسل كما وصفه بعض العلماء صيدلية كاملة، ألم يقل الله -عز وجل-:
الموضوع العلمي : الكرية الحمراء :
كما عودتكم في الدرس الماضي، هناك إخوة أكارم اقترحوا علي أن أعود إلى طريقتي السابقة في معالجة موضوع علمي في نهاية الدرس، فألزمت نفسي أن أعالج إن شاء الله تعالى في كل درس موضوعاً علمياً أذكره بشكل موجز في نهاية الخطبة في جامع النابلسي.
ماذا تعرف عن الدم ومكوِّناته ؟
وفي الميليمتر المكعب ما يزيد عن خمسة ملايين كرية حمراء، وقطر الكرية الحمراء سبع ميكرونات،
وهذه الخلية الحمراء تُصنَّع في مجموعة معامل، أبرزها نقي العظام،
فحينما تشتري لحماً بعظمه، وتطبخ هذا العظم مع اللحم، ويأتي ابنك الصغير ليأكل لُباب العظم، هذه الأسطوانة السوداء التي ينعم بها ابنك حينما يأكلها هي نقي العظام، هنا تُصنَع كريات الدم الحمر، وهذا المصنع يصنع في الثانية الواحدة اثنين ونصف مليون كرية،
وهذه الكرية الحمراء تعمِّر مئة وعشرين يوماً، وبعدها تموت، وتجري مراسم الدفن في الطحال،
فالطحال مقبرة للكريات الحمراء، وفي كل يوم تجول ألفاً وخمسمئة جولة في الدم، تقطع في عمرها ألفاً ومئة وخمسين كيلو متراً،
فالكرية الحمراء التي قطرها سبع ميكرونات، والتي تعيش مئة وعشرين يوماً، تقطع في حياتها طريقاً طوله ألف ومئة وخمسون كيلومتراً، وتنقل للأنسجة ستمئة لتر من الأوكسجين،
أحياناً الإنسان يشعر أن يده نمّلت، أو تخدّرت، يكون الدم قد قلّ وروده إلى الأنسجة، فلذلك الدم يحمل إلى الأنسجة والخلايا والأعضاء والأجهزة، وكل مكان في الجسم الدم الذي يحمل الأوكسجين، وتأخذ هذه الكرية من ناتج الاحتراق غاز الفحم، وتعيده إلى الرئة لينفث في الزفير،
هذه العملية نقل الأوكسجين، وأخذ غاز الفحم، ولذلك سمّى العلماء كرية الدم الحمراء حمّالاً لا يعرف التعب أبداً، منذ أن تولد إلى أن تموت.تصنيع الكرية الحمراء :
وكما قلت قبل قليل: مصانع الكريات الحمراء في نقي العظام تنتج في كل ثانية واحدة اثنين ونصف مليون كُرية، وأنشط المراكز العمود الفقري، وبعدها ريَش الصدر، وبعدها عظم القص، وبعدها تأتي عظام الأطراف، لكن الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة جعل لهذه المعامل معامل احتياطية، فلو أنها توقفت عن العمل يعود الطحال والكبد ليصنع كريات الدم الحمراء، وفي أثناء عمل نقي العظام يصبح الطحال والكبد مستودعاً لكريات الدم الحمراء، فإذا تلقى الكبد أمراً من الكظر بطرح كميات من الكريات في الدم،
يأخذ من مخزونه، ويطرح في الدم، أما إذا توقفت المعامل عن العمل فينقلب الكبد والطحال إلى معملين يصنّعان كريات الدم الحمراء.
فأيّ آلية حصلت؟ قال هناك مركز بالغ الحساسية يعمل على مراقبة الدم باستمرار، وهذا المركز موجود في الكليتين، فإذا نقصت كمية الدم عن حجمها الدقيق أرسل هذا المركز أمراً هرمونياً إلى معامل كريات الدم الحمراء يحثها فيه على مضاعفة الإنتاج،
وإذا زادت كمية الدم عن حدها الطبيعي، وارتفع الضغط، وكان الإنسان في حالة خطرة يصدر هذا المركز أمراً إلى معامل كريات الدم الحمراء بتقليل الإنتاج، ولذلك أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نحتجم، لماذا؟ هناك أسباب كثيرة تحدثت عنها في خطبة سابقة .
(( مَنْ أَرَادَ الحِجَامَةَ فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ، أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلاَ يَتَبَيَّغْ بِأَحَدِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَهُ ))
الحجامة و فقر الدم اللامصنع :
وكيف أن الكليتين تتوقفان كلياً عن العمل، ويسمى هبوطًا مفاجئًا في وظائف الكليتين، كذلك يتوقف نقي العظام فجأة عن تصنيع الكريات من دون سبب، والعلماء إلى الآن لا يعرفون السبب، يقولون: هذا المرض مجهول السبب، فقر الدم اللامصنع، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، أمرنا أن نحجتم في كل عام مرة أو مرتين، لأن نقص الدم في الشرايين يدعو مركز تعيير الدم في الكليتين إلى تنبيه المعامل لزيادة إنتاجها، وفي هذا تنشيط لها، وصيانة لها من الموت المفاجئ، ففي الحجامة صيانة لمعامل كريات الدم في نقي العظام،
وهذا الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(11) ﴾
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21) ﴾
أمراض الدم اختصاص كامل :
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
***
وهي الخلية الوحيدة التي تفقد نواتها، بينما أيّ خلية لا تعمل إلا بالنوية والنواة، والحكمة إلى الآن غير معروفة، والله سبحانه وتعالى دعانا إلى التفكر.﴿ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)﴾
والحمد لله رب العالمين.




